Ads
توب نمبر

 

قِفْ مكانك ساعة واحدة قبل أن تذهب لاستراحتك، فعزيز علي أن أفارقك قبل أن تسمع ما لدي...

أ هنا يترك الخليل خليله؟

أ بعد أن حمي الوطيس وبرز السيف للسيف، تُدْبِرُ و تستلقي على ربوة لتستريح؟

أ تتولى يوم الزحف الأكبر؟

ما عهدي بك إلا مقداماً تخترق بقلمك الأبجر صفوف العدو المتراصة، عاري الصدر بلا درع، تقطع الرؤوس و تكشف العورات و تَعُفَّ عن المغانم...

أ أنتظرك عاماً ونيف، أمام باب سجنك، لتقول لي أن عُوَيْماً في السجن يمنحك حق الاستراحة؟ وتلتمس الحجج الواهية و تختلق الأعذار الباطلة، فتختار ما يناسبك من أقوال تولستوي و بريخت وعبد الرحمن منيف وعبد الكريم الخطابي وأخماتوفا والقاضي أبي علي التنوخي... لتبرير ما نفسك غير راضية عليه؟

سأكون رحيماً بك و أرتضيهم جميعاً حَكَماً بيننا، شريطة أن تُذْعِنَ لِحُكْمِهم في آخر الجلسة...

فإليك ما قال تولستوي في مذكراته و هو ابن العشرين: " لم أفعل شيئاً منذ البارحة... كم يعذبني ويرعبني إدراك الكسل... إن الحياة بلا هدف محض عذاب... سأقتل نفسي إذا مرّت عليّ ثلاثة أيام أخرى من دون أن أقوم بفعل شيء ينفع الناس..."

ستقول لي عنفوان شاب غض متحمس طري العود لم يمتحن الحياة بعد... فما تقول في رسالته إلى صديق له بعد أن اعتزل الناس و عمره ثمانون حولاًًً فيقول: " على المرء، يا صديقي الوفي، إذا أراد أن يعيش بشرف وكرامة أن يتحلى بفضيلة الصبر على البلاء و المحن، وأن يُصارع كل المثبطات التي تقعده و تجذبه إلى القعر... فإذا أخطأ بدأ من جديد... وكلّما خسر عاود الكفاح من جديد... موقِناً أن الخلود إلى الراحة إنما هو دنو الروح وسقوط الهمة..."

و أنت، يا سيدي رشيد، الذي لم يَجْرِ يوماً خاطر الشيب في رأسك، و لم تسلخ بعد أربعين حجة، تستلقي فوق ربوة لتستريح...

وهل نسيت يوم صرخ في وجه القيصر قائلا: " أيها القيصر إنك صنيعة الشعب و أجيره، لا إلهه و ربه... و ليس من العدل أن تملك وحدك، و غيرك يشقى في سبيل سعادتك، و يعجز عن فتات مائدتك... و اعلم أن الأرض لله يورثها من يشاء..." فما سمع منه هذه الكلمات حتى حقد عليه و طارده في رزقه و أمنه و سخر منه في مجالس أنسه و لهوه يُرَوِّحُ عن نفسه عما يكابد من الملل و الضجر... ؟

وهل نسيت ما قال للكاهن: " ما لي أراك تجلس جلسة الذليل تحت عرش قيصرك توزع عليه و على حاشيته صكوك الغفران باسم المسيح، الذي عاش معذباً مضطهداً لأنه فضح ظلم الظالمين؟ وما هذه القصور التي تسكنها، و العيش الكريم الذي تنعم به، و أنت الراهب المتبتل الذي كتب على نفسه الانقطاع عن زخرف الدنيا و نعيمها إلى عبادة الله و الانكماش في طاعته؟ إن المسيح منك براء..." ؟

فكان جواب الكاهن أن أرسل إليه صك الحرمان، يريد تشويه سمعته و صرف قلوب الناس عنه... فلم يزد تولستوي إلا إصراراً و عزماً على محاربة الطغيان و كشف عورة الطغاة.

أمَّا شاعرك بريخت، فقد خاطبنا في آخر أيامه في قصيدته الرائعة " الأجيال المقبلة"، التي تمثل عصارة حياته قائلاً:

أتيت هذه المدن في زمن الفوضى

وكان الجوع في كل مكان

أتيت بين الناس في زمن الثورة...

فثرت معهم...

* * *

طعامي أكلته في المعارك

نمت بين القتلة و السفاحين

مارست الحب في غير اهتمام

و تأملت الطبيعة...

* * *

الطرقات على أيامي كانت تؤدي إلى المستنقعات

كلماتي اقتادتني إلى الجلاد

كنت ضعيف القوة

غير أني كنت أقض مضاجع الأقوياء

* * *

قواي كانت محدودة... و الهدف بدا بعيـداً

كان واضحا على كل حال، غير أني ما استطعت أن أدركه

وهكذا انقضى عمري

الذي قدر لي على هذه الأرض...

* * *

انقضى كلام بريخت.

أمَّا حَكَمُكَ الثالث، عبد الرحمن منيف، فليس أقل قسوة من سَابِقَيْهِ. يقول في خماسيته "مدن الملح": و اعلم أن الراحة إذا طالت تولد الكسل، والجهد إذا زاد عن حده يولد الثورة...

و يكتب عن السجن فيقول في "شرق المتوسط مرة أخرى": السجن ليس فقط الجدران الأربعة، وليس الجلاد فقط أو التعذيب، إنه بالدرجة الأولى خوف الإنسان ورعبه، قبل أن يدخل السجن، و بعد الخروج منه، وهذا بالضبط ما يريده الجلاد، وما يجعل الإنسان سجيناً دائماً..."

أما الساعة فأنصت بكلتي أذنيك إلى أمير الريف المجاهد، سيدي محمد عبد الكريم الخطابي، يحاور رئيس المجلس العسكري الإسباني، الجنرال "أسبورو" خلال محاكمته بسبب دفاعه و مؤازرته للخلافة العثمانية ضد الحلفاء:

الجنرال: هل تعمل حقًّا ضد الحلفاء؟

الأمير محمد بن عبد الكريم: نعم

الجنرال: وما سبب ذلك؟

الأمير: لأن الدولة العثمانية، دخلت الحرب، باعتبارها دولة الخلافة الإسلامية، وهي تقف بجانب ألمانيا و النمسا، وأنا مسلم مراكشي، والخليفة نادى بالجهاد ضد الحُلفاء، لتحرير بلادنا، التي تحتلها فرنسا وإسبانيا.

الجنرال: وما علاقتك بالخلافة؟

الأمير: إنها خلافة المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها؛ لذلك فأنا معهم لنحارب الحلفاء.

الجنرال (ضاحكًا): أنا أعلم، أنك رجل نبيل، ومن أسرة نبيلة معروفة، ولكن ألا تعلم أن دولة إسبانيا ملتزمة بالحياد، وأنت قاضي القضاة في منطقة الحماية؟

الأمير: هذا لا يمنعني من القيام بواجبي، وأنا أرى كثيرًا من ضباطكم، يتعاملون مع الألمان الموجودين هنا؛ لتغذية الحرب ضد فرنسا بجانب تركيا، ثم إذا كانت الوظيفة، تمنعني من القيام بالواجب، فأنا مستقيل من هذه الوظيفة، منذ الآن، لأتفرغ للقيام بالواجب المُحَتَّم عليَّ...

فأوفى بالعهد و لم يسترح حتى و هو في المنفى إلى أن لقي ربه، نحسبه شهيداً، و إن توفي على فراشه، و لا نزكيه على الله...

و ها هي حبيبتك أخماتوفا تناجيك بعد أن أعدم بوليس ستالين زوجها و تستغيثك كي لا ترحل فتنشدك قائلة بعد أن غلبها اليأس أو يكاد:

حينما ترحـلُ الريـحُ

مـن سـيهز الغصـون...؟

حينما يذبل الغصـنُ

مـن سَـيَلُمُّ النـدى..

في الصباح... و في المساء؟

انتهى كلام أخماتوفا.

أما قاضيك أبي علي التنوخي (327 ـ 384هـ ) ، صاحب "الفرج بعد الشدة "، الذي عاش في عراق القرن الرابع الهجري، و ليس الثالث كما ذكرت، فسأقاضيك عنده و أحاججك بدعائك الذي نقلته عنه...

فارجع، وإلا أحوجني الله إلا اقتضاء دراهمي الثلاث، التي كنت أقتصها من قوت يومي لأشتري جريدتك كل صباح... ارجع، و إلا ألجأني الله إلى قبض العوض عما كَتَبْتُ في حقك من ثناء و مدح... ارجع، و إلا أَصْبَحَتْ يَدُكَ هي السفلى و فقدت عزك المشهود و عشت في جُهْدٍ بعد لين...

أ يهنأ لك بال و تستريح فوق ربوة و السهام تنهال على الوطن الجريح؟ أم أن قلبك أضحى كقلب المتنبي حين قال:

رَماني الدّهرُ بالأرزاءِ حتى *** فُؤادي في غِشاءٍ مِنْ نِبالِ

فَصِرْتُ إذا أصابَتْني سِهامٌ *** تكَسّرَتِ النّصالُ على النّصالِ

أ نسيت ما كنت تردد في عمودك، إن هم سلبوك الورق كتبت على الجدران، و إن منعوك القلم كتبت بقطرات دمك؟

و كأني أراك مستلق أمامي على ربوتك، تهزأ من كلامي، و تشفق علي مما أنا فيه من خبل و هوس، و تخاطبني قائلاً:

"لك أن تقول ما شئت، كيف لا و أنت في برجك السويسري تنعم بنسيم الحرية، تغدو و تروح بين منزلك و عملك، لا يتتبع سبيلك مخبر و لا يلاحقك القضاة في المحاكم... كيف لا و أنت، يا مسكين، لم تبت ليلة واحدة في زنزانة لا أنيس لك فيها غير صرصار يقاسمك خبزك اليابس...

و لِمَا تُجَانِسُ، يا هذا، بين قلمي و فرس عنترة "أبجر" ؟ أ ما تدري ما قال عنترة بن شداد العبسي عندما سُئِلَ كيف أصبح أشجع العرب و أشدها فقال: "كنت أُقْدِمُ إذا رأيت الإقدام عزماً، و أحجم إذا رأيت الإحجام حزماً، و لا أدخل موضعاً إلا إذا رأيت لي منه مخرجاً، و كنت أضرب الفارس الضربة الهائلة التي يطير لها قلب الشجاع فأقتله..." و كعادة عنترة، ختم جوابه ببيتين يتغزل فيهما عبلة:

ولقد ذكرتـكِ والرمـاح نواهـل مني *** وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيـل السيـوف لأنهـا *** لمعت كبـارق ثغـرك المتبسـم

فاعذرني، و لا تعتب علي، و لا تُسَمِّنِي جباناً و لا منهزماً و لا مُوَلِيّاً و لا مُدْبِراً، لأنني قاتلت فأبليت حتى لم يبقَ في غمدي سيف، و لا فوق عاتقي رمح، و العدو كثير عدده، و الشجاعة في غير موطنها جنون و عناد... فاغرب عن وجهي، ولا تزعجني في خلوتي هذه... و سأقول لك ما قال المتنبي لما ظُلِمَ:

يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي *** فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ"

أراك، يا رشيدُ، قد عزمت و عقدت على أمرك. و لكن قبل أن أرحل، دعنا نقف بين يدي أعدل الناس و أرحمهم و ندخل محكمة محمد بن عبد الله...

روى لنا أصحاب السيرة فقالوا:

"توالت الأحزان على رسول الله صلى الله عليه و سلم بوفاة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وعمه أبي طالب في عام واحد. فزادت قريش في إيذائها له، وكان أبو لهب من أكثر الناس كراهية للدعوة، حتى إنه كان يلاحق النبي في الأسواق يرميه بالحجارة ويقول : " إنه صابئ كذاب "، ويحذر الناس من اتباعه، فضاقت مكة على رسول الله واشتد به الحال، فاختار الخروج للطائف... فخرج على أقدامه حتى لا تظن قريش أنه ينوي الخروج من مكة. فأقبل على الطائف وكله أمل أن تكون أرض نُصْرَة، فكلَّمهم عن الإسلام ودعاهم إلى الله، فردوا عليه رداً قاسياً، و أغروا به سفهاءهم وأطفالهم، فتبعوه يسبونه ويصيحون به ويرمونه بالحجارة، فأصيب عليه الصلاة السلام في قدميه الشريفتين حتى سالت منها الدماء، وأصابه من الهم ما جعله يسقط على وجهه الشريف، فدخل بستاناً خارج الطائف، وأسند ظهره إلى شجرة ومد يده إلى السماء، وانهمرت عبراته وهو يدعو بدعاء ما دعا به قبل ذلك، وما دعا به بعد ذلك، بعد أن أُغْلِقَتْ أمامه كل الأبواب إلا هذا الباب الذي لا يغلق أبدًا، باب الرحمن... فقال رسول الله مناجياً ربه: "اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إلى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلاَ أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ".

فلنجعل، يا رشيد، دعاء الفرج و فك الغمة إعلاناً لختم استراحتك، و دعنا نجتمع عليه كسالف عهدنا... و السَّلام.

عدد التعليقات -
عدد التعليقات - 0
تحريـر الرسـاله
© جميع الحقوق محفوظة 2012 على هواك