Ads
توب نمبر


لقد استغرق مني الأمر طويلا؛ حتى أتجرأ على تناول القلم والبدء في الكتابة، لقد أرهقني الأمر نفسيا، لا وكي أكون أكثر دقة.. لقد كسرني وقهرني إن أردنا أن ندقق في التعبير، واليوم فقط فهمت مغزى دعاء: "اللهم إني أعوذ بك من قهر الرجال".

قهر الرجال هذا بالضبط ما شعرت به أثناء متابعتي لفتيات التحرير أثناء ضربهن وسحلهن وتعريتهن، ثمّ ضربهن وضربهن وضربهن من جديد؛ حتى تقضي الروح لبارئها أو تسكن جسدا عاجزا عن أي شيء وكل شيء، لقد أصبت بدرجة من درجات الاكتئاب المدفوعة بإحساس قهر لا يمكن تحمّله، ولم يكن هذا حالي أنا فقط؛ بل حال قطاع كبير من معارفي وأصدقائي ممن ألمّت بهم نفس الحالة.

وأنا في السطور التالية أحاول أن أوضّح لمن هم في نفس حالتي ما يعانونه؛ حتى لا يظنوا في مشاعرهم مبالغة لا شأن لها، أو إهدارا لمشاعرهم على من لا يستحق، إن ما نعيشه حاليا هو حالة من العجز البيّن؛ حيث شعر كل منا بأن تلك الفتاة التي ضُربت وغيرها التي سُحلت وغيرها التي عُرّيت إنما هي أخته، حدثت حالة توحد غير طبيعية معهن، وكان الشعور بالعجز، تخيل أنك تشعر أن أختك تهان أمامك ويهتك سترها أمام ناظريك وأنت غير قادر على تحريك ساكن؟

وفي حقيقة الأمر لم تكن مشاهد أيام الجمعة الماضية سوى الصدمة الأولى التي تلقيتها، وربما الصدمة الأصغر، في حين كانت الصدمة الكبرى في قطاع كبير من الشعب المصري الذي لم يجد أي غضاضة في أن تُسحل هذه، وتُعرّى تلك، ويُضرب هذا على أمّ رأسه، ويموت ذاك برصاص حي، والإجابة جاهزة وملفوفة لفّة فنادق.. يستاهل إيه اللي ودّاه/ ودّاها التحرير؟!

هكذا وبكل بساطة أصبح الجيش والشعب إيد واحدة، فليُقتل من يُقتل في سبيل استقرار البلد، فليمارس بعض الجنود "المعقدين نفسيا" عقدهم على فتيات في عمر الزهور، ويعرّوا ما يسترون وينهشوا ما يطالون، والضرب الذي يتعرضون له في حقيقة الأمر ضرب قاتل، ضرب بغرض القتل، موجّه للرأس ولا شيء غيره؛ حتى إن الناشط إيهاب حنا شياعية -ذاك الشاب البطل الذي حاول إنقاذ فتاة العباءة التي تمّ تعريتها من قِبل الجنود البواسل؛ كي تصبح عبرة لكل من تفكر أن تطأ قدماها عتبة ذاك الميدان- قال إن أحد الجنود أوقف زميله عن ضربه قائلا: "خلاص ده مات"، فصدرت عن إيهاب آهة غير مقصودة صادرة من ذلك اللاوعي السحيق؛ فما كان من الجندي إلا أن قال: "الحقْ.. ده لسه عايش!".

وأنا في حقيقة الأمر لا ألوم هنا الجنود على الإطلاق؛ هو في النهاية عضو في مؤسسة عسكرية الأساس فيها التراتبية والهرمية في إعطاء الأوامر وتنفيذها، والجندي هو أصغر لبنة في هذا الهرم العسكري، وعدم تنفيذ الأمر يعني الخيانة والقتل، وأنا بصفة عامة لا أؤيد فكرة أن يعصوا الأوامر؛ حتى لو كانت تلك الأوامر هي الضرب والسحل؛ لأن العصيان في تلك الحالة سوف يعني فقدان السيطرة على الجيش الذي يسيطر على البلاد، وساعتها عليه العوض ومنه العوض.

لم يكن المجلس العسكري هو من صدمني؛ فلم أراهن عليه يوما لأسباب أعرفها ويعرفها الجميع ولا داعي لذكرها، ولكني ما دام راهنت على الشعب المصري، وللمرة الأولى في حياتي يفتر إيماني بشخص أو شيء كما حدث مع فئة عريضة من الناس.

لقد كنت دائما على قناعة تامة أن الشعب المصري على استعداد لأن يغفر للجيش بعض زلاته؛ حرصا على مصلحة الوطن، وتقديرا للمسئولية الرهيبة التي يتكبدها، وأصبحت العلاقة بين الطرفين كالزوجة التي تعلم بخيانة زوجها، ولكنها فحسب ترفض أن تواجهه بالحقيقة؛ حرصا على عدم خراب البيت، وأنا هنا لا أقصد الخيانة بمعناها الحرفي لا سمح الله، ولكن ورغم كل ما سلف كنت مؤمناً بأن الشعب المصري يتحمل درجة معينة من الإهانة، وينتفض بعدها ليظهر عينه الحمراء، وكنت أعتقد في هتك عرض البنات في الميدان، وتلك السادية المريضة في ضربهن بهذه الصورة إنما هو هذه الإشارة التي عندها سيغضب الشعب المصري ليوقف المجلس ويرجعه.

ولكن ما وجدته كان شيئاً آخر، تلك العين الحمراء وجدتها خضراء ومستوية، كمن يرى ابنته تُغتصب أمام عينه ويغلق عليها الباب حتى لا يتأذى معنوياً، ولتحترق هي بدنياً لا يهم! أدهشتني الإجابات والتبريرات، وإيه اللي ودّاها؟ تستاهل! هل هناك من يستاهل أن يُنتهك ستره بهذه الصورة؟؟ ثم إن ميدان التحرير هو منطقة عامة ورمز للحرية، حتى وإن اندسّ وسطه البلطجية، فلا يعني ذلك أن يكون عقاب من يقترب منه تلك الفضيحة الميري، هل وصلنا إلى الحد الذي نلوم فيه فتاة على أنها لم ترتدِ ملابس أخرى أسفل العباءة حتى لا تفضح سعادة البيه الضابط عندما يعريها بهذه الصورة؟! هل نتدخل في ملابس الناس الداخلية؟! هل نلوم على الضحية صراخها وقت الجلد ولا نلوم على الجلاد؟!!

حتى الدم اكتشفت مدى رخصه، حتى الدم أصبح فيه رأي ورأي آخر، حتى الدم أصبح من الممكن غضّ الطرف عنه، دول بلطجية يستاهلوا، هكذا كانت أغلب الردود، الشيخ عماد عفت أحد أعلام الأزهر الذي بكاه المفتي في جنازته بكاء هزّ أرجاء المكان كان بلطجياً، ود. علاء عبد الهادي تلك الزهرة التي لم تتفتح بعد والذي توجّه لعلاج المصابين ولم ترحمه استغاثاته كان على ما يبدو أيضاً بلطجياً، المهم هو المجمع العلمي الذي احترق والذي أقسم على أن أغلب الناس لم يسمعوا عنه سوى يوم احتراقه ولا يعرفون الفرق بينه وبين مصلحة البريد!!

وعلى أية حال إلى كل الحزانى المولولين على المجمع العلمي الذي هو قيمة تاريخية بلا شك وخسارة فادحة ولا خلاف أقول: ‎"لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ".. "لأن تهدم الكعبة حجرًا حجرًا أهون على الله من أن يراق دم".. نقول الكعبة والدنيا وليس المجمع العلمي أغلى على الله، يا الله ليس لنا سواك ترحمنا وتودّنا؛ فأنت خالقنا وأقرب إلينا من أي شيء وكل شيء.

كنت أحسبنا متدينين نغير لأعراضنا فأخطأت، كنت أحسبنا وطنيين لا نسترخص دماءنا فأخطأت، سقطت كل حساباتي المتعلقة بقطاع كبير من الشعب المصري، لأول مرة منذ أن لفظتني أمي إلى الحياة أشعر بالغربة في هذا الوطن..

                                       أشعر برغبة قوية.. في الرحيل وبيع القضية


عدد التعليقات -
عدد التعليقات - 0
تحريـر الرسـاله
© جميع الحقوق محفوظة 2012 على هواك